الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
{ثم أنشأناه خلقاً آخر}.. هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة. فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية. ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقاً آخر، ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة، المستعدة للارتقاء.ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان، مجرداً من خصائص الارتقاء والكمال، التي يمتاز بها جنين الإنسان.إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد. وهو ينشأ {خلقاً آخر} في آخر أطواره الجنينية؛ بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص. ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية، فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطوراً آلياً كما تقول النظريات المادية فهما نوعان مختلفان. اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين إنساناً. واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة والتي ينشأ بها الجنين الإنساني {خلقاً آخر}. إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني؛ ثم يبقى الحيوان حيواناً في مكانه لا يتعداه. ويتحول الإنسان خلقاً آخر قابلاً لما هو مهيأ له من الكمال. بواسطة خصائص مميزة، وهبها له الله عن تدبير مقصود لا عن طريق تطور آلي من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان.{فتبارك الله أحسن الخالقين}.. وليس هناك من يخلق سوى الله. فأحسن هنا ليست للتفضيل، إنما هي للحسن المطلق في خلق الله.{فتبارك الله أحسن الخالقين}.. الذي أودع فطرة الإنسان تلك القدرة على السير في هذه الأطوار، وفق السنة التي لا تتبدل ولا تنحرف ولا تتخلف، حتى تبلغ بالإنسان ما هو مقدر له من مراتب الكمال الإنساني، على أدق ما يكون النظام!وإن الناس ليقفون دهشين أمام ما يسمونه معجزات العلم حين يصنع الإنسان جهازاً يتبع طريقاً خاصاً في تحركه، دون تدخل مباشر من الإنسان.. فأين هذا من سير الجنين في مراحله تلك وأطواره وتحولاته، وبين كل مرحلة ومرحلة فوارق هائلة في طبيعتها، وتحولات كاملة في ماهيتها؟ غير أن البشر يمرون على هذه الخوارق مغمضي العيون، مغلقي القلوب، لأن طول الألفة أنساهم أمرها الخارق العجيب.. وإن مجرد التفكر في أن الإنسان هذا الكائن المعقد كله ملخص وكامن بجميع خصائصه وسماته وشياته في تلك النقطة الصغيرة التي لا تراها العين المجردة؛ وإن تلك الخصائص والسمات والشيات كلها تنمو وتتفتح وتتحرك في مراحل التطور الجنينية حتى تبرز واضحة عندما ينشأ خلقاً آخر. فإذا هي ناطقة بارزة في الطفل مرة آخرى. وإذا كل طفل يحمل وراثاته الخاصة فوق الوراثات البشرية العامة. هذه الوراثات وتلك التي كانت كامنة في تلك النقطة الصغيرة.. إن مجرد التفكر في هذه الحقيقة التي تتكرر كل لحظة لكاف وحده أن يفتح مغاليق القلوب على ذلك التدبير العجيب الغريب..ثم يتابع السياق خطاه لاستكمال مراحل الرحلة، وأطوار النشأة. فالحياة الإنسانية التي نشأت من الأرض لا تنتهي في الأرض، لأن عنصراً غير أرضي قد امتزج بها، وتدخل في خط سيرها؛ ولأن تلك النفخة العلوية قد جعلت لها غاية غير غاية الجسد الحيواني، ونهاية غير نهاية اللحم والدم القريبة؛ وجعلت كمالها الحقيقي لا يتم في هذه الأرض، ولا في هذه الحياة الدنيا؛ إنما يتم هنالك في مرحلة جديدة وفي الحياة الأخرى:{ثم إنكم بعد ذلك لميتون.ثم إنكم يوم القيامة تبعثون}..فهو الموت نهاية الحياة الأرضية، وبرزخ ما بين الدنيا والآخرة. وهو إذن طور من أطوار النشأة الإنسانية وليس نهاية الأطوار.ثم هو البعث المؤذن بالطور الأخير من أطوار تلك النشأة. وبعده تبدأ الحياة الكاملة، المبرأة من النقائص الأرضية، ومن ضرورات اللحم والدم، ومن الخوف والقلق، ومن التحول والتطور لأنها نهاية الكمال المقدر لهذا الإنسان. ذلك لمن يسلك طريق الكمال. الطريق الذي رسمه المقطع الأول في السورة. طريق المؤمنين فأما من ارتكس في مرحلة الحياة إلى درك الحيوان. فهو صائر في الحياة الأخرى إلى غاية الارتكاس. حيث تهدر آدميته، ويستحيل حصباً من حصب جهنم، وقوداً للنار، التي وقودها الناس والحجارة. والناس من هذا الصنف هو والحجارة سواء!ومن دلائل الإيمان في الأنفس ينتقل إلى دلائل الإيمان في الآفاق. مما يشهده الناس ويعرفونه، ثم يمرون عليه غافلين:{ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون}..إن السياق يمضي في استعراض هذه الدلائل، وهو يربط بينها جميعاً. يربط بينها بوصفها من دلائل القدرة؛ ويربط بينها كذلك بوصفها من دلائل التدبير؛ فهي متناسقة في تكوينها، متناسقة في وظائفها، متناسقة في اتجاهها. كلها محكومة بناموس واحد؛ وكلها تتعاون في وظائفها؛ وكلها محسوب فيها لهذا الإنسان الذي كرمه الله حساب.ومن ثم يربط بين هذه المشاهد الكونية وبين أطوار النشأة الإنسانية في سياق السورة.{ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين}..والطرائق هي الطبقات بعضها فوق بعض. أو وراء بعض. وقد يكون المقصود هنا سبع مدارات فلكية. أو سبع مجموعات نجمية كالمجموعة الشمسية. أو سبع كتل سديمية. والسدم كما يقول الفلكيون هي التي تكون منها المجموعات النجمية.. وعلى أية حال فهي سبع خلائق فلكية فوق البشر أي إن متسواها أعلى من مستوى الأرض في هذا الفضاء خلقها الله بتدبير وحكمة، وحفظها بناموس ملحوظ: {وما كنا عن الخلق غافلين}.{وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون}..وهنا تتصل تلك الطرائق السبع بالارض. فالماء نازل من السماء؛ وله علاقة بتلك الأفلاك. فتكوين الكون على نظامه هذا، هو الذي يسمح بنزول الماء من السماء، ويسمح كذلك بإسكانه في الأرض.ونظرية أن المياه الجوفية ناشئة من المياة السطحية الآتية من المطر؛ وأنها تتسرب إلى باطن الأرض فتحفظ هناك.. نظرية حديثة. فقد كان المظنون إلى وقت قريب أنه لا علاقة بين المياه الجوفية والمياة السطحية. ولكن ها هو ذا القرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة قبل ألف وثلاث مائة عام.{وأنزلنا من السماء ماء بقدر}.. بحكمة وتدبير، لا أكثر فيغرق ويفسد؛ ولا أقل فيكون الجدب والمحل؛ ولا في غير أوانه فيذهب بدداً بلا فائدة..{فأسكناه في الأرض}.. وما أشبهه وهو مستنكن في الأرض بماء النطفة وهو مستقر في الرحم.{في قرار مكين}.. كلاهما مستقر هنالك بتدبير الله لتنشأ عنه الحياة.. وهذا من تنسيق المشاهد على طريقة القرآن في التصوير..{وإنا على ذهاب به لقادرون}.. فيغور في طبقات الأرض البعيدة بكسر أو شق في الطبقات الصخرية التي استقر عليها فحفظته. أو بغير هذا من الأسباب. فالذي أمسكه بقدرته قادر على تبديده وإضاعته. إنما هو فضل الله على الناس ونعمته.ومن الماء تنشأ الحياة:{فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون}..والنخيل والأعناب نموذجان من الحياة التي تنشأ بالماء في عالم النبات كما ينشأ الناس من ماء النطفة في عالم الإنسان نموذجان قريبان لتصور المخاطبين إذ ذاك بالقرآن، يشيران إلى نظائرهما الكثيرة التي تحيا بالماء.ويخصص من الأنواع الأخرى شجرة الزيتون:{وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين}..وهي من أكثر الشجر فائدة بزيتها وطعامها وخشبها. وأقرب منابتها من بلاد العرب طور سيناء. عند الوادي المقدس المذكور في القرآن. لهذا ذكر هذا المنبت على وجه خاص. وهي تنبت هناك من الماء الذي أسكن في الأرض وعليه تعيش.ويعرج من عالم النبات إلى عالم الحيوان:{وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون}..فهذه المخلوقات المسخرة للإنسان بقدرة الله وتدبيره، وتوزيعه للوظائف والخصائص في هذا الكون الكبير.. فيها عبرة لمن ينظر إليها بالقلب المفتوح والحس البصير؛ ويتدبر ما ورائها من حكمة ومن تقدير؛ ويرى أن اللبن السائغ اللطيف الذي يشربه الناس منها خارج من بطونها؛ فهو مستخلص من الغذاء الذي تهضمه وتمثله؛ فتحوله غدد اللبن إلى هذا السائل السائغ اللطيف.
|